بائع … أم مشتري؟!!
في أكبر شركة لتسويق العقارات السياحية بالإسكندرية كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحا ومع ذلك كان رئيس قسم المروجين ثائرا ويطلب الاجتماع مع رجاله في هذا الوقت المتأخر …
وشركة تسويق العقارات السياحية هذه تبيع المواقع السياحية في الساحل الشمالي بأسلوب أصبح منتشرا عالميا، فهي تبيع القطعة الواحدة لأثنين وخمسين عميلا… على أن يحصل العميل على حق الانتفاع بهذه القطعة أسبوع واحد فقط في السنة، وهذه القطعة تكون عبارة عن شاليه فاخر مزود بأحدث وسائل الراحة للمصيف.
وفي الواقع الشركة تكونت منذ أكثر من سبع سنوات وقد ازدهرت أعمالها كثيرا في البداية … ولكن في هذا العام حيث بدأ الجنية المصري في الانخفاض والقوة الشرائية له لم تعد كما كانت … علاوة على صعوبة المعيشة، كل هذا أدى إلى صعوبة العمل لعدم وجود عملاء مستعدين للشراء … لقد أصبح من الصعب الاستمرار في بيع هذه الشاليهات بنفس المعدل الذي كانت تباع فيه في بداية تأسيسها، لذلك كان صاحب الشركة في حالة غضب شديد من المصير المجهول الذي قد يواجه الشركة … ليصب غضبه على رئيس قسم المروجين… الذي جمع شبابه ونقل ذلك الغضب وبعنف أشد إليهم يتهمهم بالإهمال وبعدم المقدرة على اجتذاب واكتشاف الزبون القادر على شراء تلك الشاليهات.
وأخيرا طلب الاجتماع بهم بعد الانتهاء من الالتقاء بالعملاء … فكان ذلك الاجتماع في ذلك الوقت الغريب. وكانت صرخته الأولى في وجه الشباب هي سؤال بسيط
هل تعرفون كم شاليه بعناه اليوم ؟
-------------
ولا واحد
------------
تقابلنا مع ثلاث وسبعين عميلا تفضلتم وجمعتموهم من الأحياء المختلفة التي من المفروض أن تكون أحياء راقية … ولكننا لم نجد زبون واحد قادر أو راغب على شراء ما نبيع … هل تعرفون لماذا؟
------------
لقد كنت اليوم في شدة الخجل من تلك الشخصيات التي تعاملت معها … وكثيرا ما منعت نفسي من محاولة الإحسان على بعض الشخصيات التي أتيتم بها لشراء أسبوع في شاليه بقيمة تصل إلى ثلاثين ألف جنية وأكثر
وهنا لم يستطع الكثير من الشباب أن يمنع نفسه من الابتسام في خجل , تلك الابتسامة التي كانت بمثابة عود الكبريت الذي أشعل فتيل الغضب فأخذ يصرخ
تضحكون؟!… إنها مأساة … مأساة بكل ما تحمله الكلمة من معاني … ماذا جرى لكم … هل فقدتم التمييز؟ !
استجمع أحد الشبان شجاعته وقال
وماذا نفعل نحن؟ … يبدوا أن هذه الأصناف هي التي تأتي إلى الإسكندرية
بل أنت الذي تقف في المكان الخطأ
و هل هذا ذنبي؟ … إن المكان الذي أقف فيه هو المكان الذي تحددونه أنتم … أنتم لا تسمحون بأن نختار نحن أماكن الوقوف حتى لا نترك مكان ونتجمع حول مكان واحد … وتقولون أن اختياراتكم لهذه الأماكن نتيجة دراسة مستفيضة من طرفكم … أنا لست صاحب قرار الوقوف في هذا المكان.
فوجئ المدير بجواب الشاب … لقد نسي في ثورة غضبه أنه هو الذي حدد الأماكن لهؤلاء الشباب وطلب من كل واحد منهم ألا يبارح مكانه… ولكنه استمر
ماشي … إننا نرسم لك أماكن وقوفك … ولكن عليك أنت التمييز
تعال لتقف مكاني ولتر ماذا كنت ستأتي وستنتقي من الزبائن … أنا أيضا أصابني الضرر من قلة البيع … أنتم تعطوني أجري نسبة من كل زبون يشترى منكم … وطوال هذا الشهر لم أستطع بيع أي شئ … وبناء عليه لن أقبض هذا الشهر … وهذه ليست المرة الأولى التي أعمل فيها بدون مقابل… هل تظن أني مسرور لأجل هذا ؟ تعال قف مكاني غدا وأحضر لي زبون لكي تثبت لي أني فاشل … وأنا أتحداك ولنر
وبسرعة أجاب المدير
اتفقنا … ولكنك ستترك الوظيفة مع أول زبون أتمكن من البيع له من شارعك … أين تقف ؟
في ستانلي
في أي ساعة؟
منذ الرابعة عصرا وحتى الثانية عشر ليلا
غدا نلتقي
وانتهى الاجتماع بهذا التحدي.
***
كان يقف بالقرب من مقهى سياحي جميل يرقب الداخل والخارج من المقهى , ويتقدم عندما يجد الشخصيات التي يشعر بإمكانية أن تستمع له، ليكتشف كم أن الأمر في غاية الصعوبة، وجد الكثير من التجاهل، والكلمات الساخرة … وشعر انه شحاذ يتسول… ينظر في استحياء لمن يراقبه في تحدي ليجد عينا الأخير تلمعان في انتصار فيعتدل من جديد ويقف في تشامخ من يرفض الهزيمة.
يمر أمامه رجل في أواخر الثلاثينات هو وزوجته وبجانبهما يسير طفل وطفلة يلعبان بشقاوة واضحة. يتقدم وينصت إلى حديثهما قليلا… كانت لهجته ليست مصرية خالصة. بل تشوبها لكنة تدل على أنه من آهل الشام أو الأردن… يشعر أن هذا الرجل هو المطلوب … وأنه وصل إلى بغيته. فيتقدم أليه في منتهى الأدب ليقول له
مساء الخير
مساء النور … كيف أستطيع أن أخدمك
يستمر المدير في الحديث
أرى أنك أردني … هل هذا صحيح
كلا… أنا مصري ولكني عشت خمس سنوات في الأردن مما جعل لهجتي تتغير بعض الشيء … قريبا سأسترجع لهجتي المفقودة …
مزيد م الابتسام المصطنع في وجه التاجر ليقول لفريسته
أرى أنك تحب السياحة
أحب الإسكندرية بالذات… لقد ذهبت إلى بلاد ساحلية كثيرة ولم أر أجمل من الإسكندرية
والآن ها قد حان الوقت للانقضاض على الفريسة، لذلك بدأ مناورته بهذه العبارة
هل تحب أن تدخل معنا مسابقة بسيطة … أن شركتنا العقارية تعمل في كل صيف بعض المسابقات في شوارع الإسكندرية من يفوز ينال جوائز قيمة
لا مانع عندي
ثلاث أسئلة فقط
تفضل
نحب أن نتعرف على اسمك
يرد الرجل ضاحكا
هل هذا السؤال الأول ؟ انه سؤال سهل … أنا البير
ويضحك بدوره مدير المبيعات ويقول
بل هذا السؤال هو ما قبل البداية , وها هي الأسئلة الثلاث
وبالطبع يفوز البير المثقف بالجائزة بعد دخوله في اختبار سهل للغاية، ويعلن صاحبنا له أنه عليه أن يأتي إلى مبني الشركة ليحصل على الجائزة القيمة في انتظاره ويطلب منه عشرة جنيهات على سبيل الأمانة يستردها عندما يأتي ألي الشركة فيعطيها له البير بمنتهى البساطة مما يزيد من ثقة مدير المبيعات أنه حصل على الرجل المناسب.
***
يتوجه المدير إلى الموظف وقال له بلهجة المنتصر
ها أنا قد انتهيت … هل رأيت اختياري ؟ انه إنسان مثقف يعرف كيف يجيب , ولم استغرق وقتا طويلا في إقناعه أن يأتي إلى الشركة لير العرض …هيا إلى الشركة
مديري العزيز .. لا أريد أن الفت انتباهك أنك تجاهلت كل القواعد فأنت لم تعرف مهنة صاحبنا ولا مقدار دخله، لقد اعتمد على ثقافته فقط وهذا غير كاف فمعظم المثقفون من ذوات الدخل المحدود، لقد تجاهلت القواعد التي علمتها لنا أنت … على أي حال سنرى إذا ما كانت حاستك السادسة التي اعتمدت عليها ستصدق أم لا …
ستصدق… وسترى
على أي حال أنت لم تقف ألا ساعة واحدة… ونحن نقف سبع ساعات … ألن تقف بقية الوقت
رد متشامخا
وما الداعي إلى ذلك … سأكتفي بهذا القدر حتى أريك أنى في ساعة واحدة فعلت ما لم تفعله أنت في الشهر الماضي كله … استمر واقفا أما أنا فسأعود إلى الشركة لأقابل العملاء
ولكني أحب أن أرى نتيجة لقاءك مع هذا العميل بالذات … فالنجاح لا يحسب إلا إذا اشترى شيئا… أننا كثيرا ما ننجح في جذب العميل إلى الشركة, ولكن المشكلة في إقناعه بالشراء
غدا تعال … لتصفق عندما نعلن أنه اشترى واحدة من منتجعاتنا السياحية … ولا تخف … لن أطردك … سأعتبره مجرد كورس تدريبي لك
ويغادر المكان بمنتهى الغرور وفي قرارة نفسه يشكر ربه أنه أنتهي من هذه المهمة بسرعة.
***
في الوقت المعين يأتي صاحبنا وزوجته وأولاده إلى مقر الشركة, وفي الواقع كان ذلك العميل مستمعا جيدا لكل ما قاله مدير الشركة. استمع إلى ميزات العرض بمنتهى الجدية، وأخذ يشاهد الكتالوجات المعروضة أمامه ويتساءل عن الأسعار وما إلى ذلك. حتى بات المدير واثقا بل متأكدا من إتمام الصفقة. ولكن في النهاية عندما أتم كل حديثه قال البير
صديقي العزيز … كل هذا العرض رائع جديد لا يمكن أن يفوته شخص قادر على الشراء… ولكني مع الأسف لست من هذا النوع… إنني رجل أعمل في نفس مهنتك لحساب شخص آخر… وأبيع عقارات أخرى أفضل كثيرا جدا من الذي تعرضه، أنني أبيع مدن كامله أرضيتها من الذهب الخالص… مدينة لا يوجد لها منافسة … هل تريد أن ترى الكتالوج الذي معي؟
لا مانع عندي … لنر عرضك
ويفتح البير كتابه المقدس ويقرأ من الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الرؤيا " وأراني المدينة المقدسة أورشليم نازلة من السماء من عند الله… ولها مجد الله … وهي تتلألأ كالأحجار الكريمة… … كانت المدينة مبنية من ذهب خالص شفاف كالزجاج النقي " ثم يقول لمدير المبيعات ورفيقه
كل هذه لن تكلفني دينارا أو جنيها واحدا… هل مجانا للجميع ، لكل من وضع ثقته في المسيح يسوع، هو يقدم هذه المدينة مجانا على حساب دمه الغالي… ليس هذا فقط … ولكنه يعطي هنا على الأرض حياة السلام والرجاء… هو يغير الحياة … يغيرها بالكامل, يجعل متعتك ليس أسبوعا فقط … بل العمر كله… لا يجعلك تتمتع بغرفة خمس نجوم لوقت محدود على الأرض … ولكنه يعطيك متعة التغيير العمر كله… لا يعدك بالراحة أو بحل جميع مشاكلك … أو بحياة وردية لمدة أسبوع في السنة… ولكنه يعد أن يرافقك كل الحياة بحلوها أو مرها … يحملك على منكبيه … يعلمك حياة التسليم الكامل والرفقة الكاملة والسلام الكامل… فهل تشتري مني ؟
لم يشتري البير شيئا من هذه الشركة العقارية… ولكنه استطاع أن يبيع لحساب سيده مكانين في تلك المدينة السماوية … لقد كان هو البائع وليس المشتري.
***