هل يعقل أن يموت المسيح
هل يعقل أن يموت المسيح، ابن الله المتجسد، صلباً
لطالما عرفنا وآمنّا أن المسيح هو ابن الله الذي تجسّد وصار إنساناً من أجل خلاصنا. ولكن يُطرح هذا السؤال: إذا كان المسيح هو الله ظاهراً في الجسد، فهل يُعقل أن يموتَ مصلوباً؟
نعلم علم اليقين أن الله الواحد ثلاثة أقانيم، وأنه مكتف بذاته ويمارس صفاته مع ذاته أزلياً، في وحدة ومحبة فائقة الإدراك بين الأقانيم الثلاثة.
عرفنا الله، لا كما صورته لنا عقولنا، بل كما أعلن ذاته لنا في كتابه المقدس، وفي أقنوم الابن الذي جاء متجسداً إلى هذا العالم ليعلن الله. ومعرفة الله هي أعظم وأثمن شيء في الوجود. ولكن هنا يأتي السؤال الهام: هل نستطيع أن نصل إلى الله الذي عرفناه، ونقترب منه، وننال الحظوة لديه؟ هل يمكن أن تكون لنا شركة معه ونحن هنا على الأرض، وأن نساكنه في الأبدية التي لا نهاية لها؟ الجواب كلا. لأنه قدوس، كلي القداسة، ونحن خطاة نجسون كل النجاسة. هذا فضلاً عن أنه تعالى قد أصدر علينا حكماً بالموت الأبدي نتيجة لعصياننا عليه. ومن أين لنا أن نخلص من هذا الحكم من جهة، وأن نتوافق مع قداسته من الجهة الأخرى؟
إن ملائكته اللامعين القديسين الذين لم يخطئوا يغطون وجوههم أمامه، لا بالنسبة لمجده وجلاله فقط، بل بالنسبة لقداسته الفائقة، اذ وهم يغطون وجوههم ينادون قائلين "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ"(*) (إشعياء 6: 2، 3)، فكيف يمكن أن يقترب منه الإنسان الخاطيء؟ وهذا ما شعر به أصحاب أيوب قديماً فقال أحدهم "وَإلى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً. 19فَكَمْ بِالْحَرِيِّ سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ" (أيوب 4: 18، 19). وقال آخر "السُّلْطَانُ وَالْهَيْبَةُ عِنْدَه... هُوَذَا نَفْسُ الْقَمَرِ لاَ يُضِيءُ وَالْكَوَاكِبُ غَيْرُ نَقِيَّةٍ فِي عَيْنَيْهِ. فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الإنسان الرِّمَّةُ وَابْنُ آدَمَ الدُّودُ" (أيوب 25: 2، 6). وإذ كنا لا نستطيع أن نصل إلى الله فما الفائدة من معرفته؟ إنها لا تزيدنا إلا
حسرةً وألماً. ولكن شكرا لله لأنه وجد حلاً وحيداً لهذه المشكلة المستعصية.
وقبل أن نوضح هذا الحل الإلهي لابد أن نشير إلى حقيقة حالنا كبشر كما يكشفها لنا الله في كتابه المقدس، لنرى البعد الشاسع والهوة السحيقة بيننا وبين الله، وكيفية السبيل إلى عبورها.
حقيقة حالنا كبشر خطاة
لقد خلق الله الإنسان في حالة البرارة والطهارة كما هو مكتوب "أَنَّ اللَّهَ صَنَعَ الإنسان مُسْتَقِيماً" (جامعة 7: 29). ولكنه عصي الله وتعدى الوصية الوحيدة التي أعطاها له، فوقع تحت طائلة القصاص الذي أصدره الله وأنذره به مقدماً قائلاً "يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا (أي من شجرة معرفة الخير والشر)
مَوْتاً تَمُوتُ" (تكوين 2: 17). وهذا الموت ثلاثي: موت روحي، وموت جسدي، وموت أبدي. الموت الروحي هو الانفصال عن الله، وهذا ما حدث بمجرد السقوط في الخطية، إذ شعر آدم وحواء بعدم توافقهما مع محضر الله، فاختبأا "في وسط شجر الجنة" قبل أن يطردهما الله منها. وهذا الموت الأبدي سرى في كيانهما مفسداً طبيعتهما،
وتوارثه نسلهما كما هو مكتوب "بِإنسان وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رومية 5: 12). وقد شهد بذلك داود النبي إذ قال: "هَئَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي" (مزمور 51: 5). وشهد بذلك بعض العلماء فقال أرسطو "إن أكثر أعمال الإنسان محكومة بالعواطف والشهوات. لذلك فانه يقع في الخطأ مهما علم العقل بضرره. فالإنسان يفكر جيداً ويرشده فكره إلى الصواب، لكن تتغلب عليه شهوته فتغويه". وقال آخر "إن الأطفال يأتون إلى العالم وفي طبيعتهم العناد والشر والأنانية".
وكلنا نعرف الحقيقة المتداولة "النفس أمارة بالسوء" مع أن الله لم يخلقها هكذا ولكنها فسدت بالسقوط وهذا أمر طبيعي فالحية لا تلد إلا حية، والخنـزيرة لا يمكن أن تلد حملاً، وكذلك لا يجنون من الشوك عنباً ولا من الحسك تيناً، ولا تقدر شجرة رديئة أن تصنع أثمارا جيدة: (متى 7: 16- 18).
فالناس خطاة لسببين:
أولاً: لأنهم مولودون بطبيعة فاسدة.
ثانياً: لأنهم يخطئون بإرادتهم نتيجة لتلبية رغبات طبيعتهم الفاسدة. كما يقول الرسول "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً (أي أنتنوا ولم يعد لهم نفع).
لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رومية 3: 12).
هذا هو الموت الروحي. أما الموت الجسدي فحكم به الله على الإنسان بقوله لآدم "حَتَّى تَعُودَ إلى الأرض الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإلى تُرَابٍ تَعُودُ" (تكوين 3: 19). ولكن العودة إلى التراب ليست هي النهاية لأن نفس الإنسان خالدة تبقى إلى الأبد، لذلك يقول الرسول بولس "وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ" (عبرانيين 9: 27). وبعد الدينونة (المحاكمة) أمام العرش العظيم الأبيض يُطرح جميع الأشرار في النار الأبدية ويقول الكتاب "هَذَا هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي" (رؤيا 20: 14)، أي بعد الموت الجسدي الأول. وعذاب النار الأبدية حقيقة تقر بها جميع الأديان.
وخلاصة القول هي أن السقوط جلب على البشر:
1. الموت الروحي أي الانفصال عن الله ويتبع هذا فساد الطبيعة البشرية التي صارت مستودعاً لكل بذور الشر والعداوة والقتل والأنانية والشهوات بدرجة تجعل الناس أنفسهم ينفرون من هذه الشرور في الآخرين، فكم بالحري هي كريهة في نظرالله!
2. الموت الجسدي أي انفصال الروح عن الجسد الذي يعود إلى التراب الذي أخذ منه.
3. العذاب الأبدي الذي هو قضاء الله على جميع الخطاة.
وبناء عليه فلا يمكن أن يقترب الإنسان إلى الله أو تكون له معه علاقة حاضراً وأبدياً إلا إذا تم إيفاء مطاليب عدل الله، وإنقاذ الإنسان من عواقب السقوط الوبيلة السابق الإشارة إليها حتى يمكن أن تزول عنه صفة الذنب ويتبرر أمام الله. ولابد أيضاً من إعطاء الإنسان طبيعة جديدة بها يتوافق مع الله ويصلح لمساكنته. ومعالجة حالة الإنسان من كل الوجوه بالكيفية التي ذكرناها مستحيلة على الإنسان تماماً بالرغم من كل محاولاته المستمرة.
العلاج الإلهي للإنسان الساقط ( تكوين 3)
مما يسترعي النظر أن الفصل الذي يخبرنا عن سقوط الإنسان في أول صفحات الكتاب المقدس (في تكوين 3) يرينا بوضوح:
1. نتائج السقوط الوبيلة التي أشرنا إليها.
2. فشل جهود الإنسان لمعالجة حاله وعودته للاقتراب إلى الله.
3. العلاج الإلهي الكامل الذي يكفل التبرير والقبول والخلاص من العقاب الأبدي، وكأن الله قد أودع كل بذور مقاصده الصالحة نحو الإنسان في الصفحات الأولى من
كتابه المقدس.
ونبين باختصار كيف نجد هذه النقاط الهامة الثلاث في إصحاحي 3، 4 من سفرالتكوين:
1. نجد فساد طبيعة الإنسان في التشكك في محبة الله وفي صدق أقواله، حيث أوهمه الشيطان أن الله منع عنه خيراً بنهيه إياه عن الأكل من الشجرة وبأن الله غير صادق في تهديده إياه بالموت. هذا فضلاً عن استهانة الإنسان بسلطان خالقه، وإهانته بالتعدي على وصيته. وزاد الطين بلة بإلقاء تبعة سقوطـه علــى الله قائلا "الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ" (تكوين 3: 12). وقد ظهرت علامات هذا الفساد في وجود الإنسان في حالة العري والخزي، وفي اختبائه من محضر الله.
2. على أن الإنسان لم يستسلم لله ليعالج حاله التعيس بل حاول أن يعالج أمره بنفسه (عندما نقول الإنسان نقصد آدم وحواء معاً) "فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" (تكوين 3: 7) وكل ما استطاعت هذه المآزر أن تفعله هو أن تغطي عري الواحد منهما عن الآخر، وليس عن الله لأن آدم وهو متزر بالمآزر يقول لله "لأني عريان". وأوراق التين تمثل كل الوسائل البشرية في كل العصور لمحاولة إصلاح طبيعة الإنسان وتهذيبها، وكل وسائل الصقل وتحسين الأخلاق والمظهر، فإن هذه كلها إنما تخفي مخازي الإنسان الداخلية عن إخوانه، ولكنها لا يمكن أبداً أن تخفيها عن نظر الله أو أن تصلح طبيعة الإنسان بأي درجة من الإصلاح، كما هو مكتوب "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ" (يوحنا 3: 6) وأيضاً "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ...هُوَ عَدَاوَةٌ لِلَّهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَاضِعاً لِنَامُوسِ اللهِ لأَنَّهُ أيضاً لاَ يَسْتَطِيعُ. 8فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ (رومية 8: 6-
. ونرى صورة لذلك في إشعياء النبي، إذ لم يستطع أن يكتشف حقيقة حاله إلا في نور مجد الرب فصرخ قائـلاً: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إنسان نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْـنِ" (إشعياء 6: 5). ثم نجد في تكوين 4 أن قايين أول ابن لآدم حاول أن يقترب إلى الله بأعماله، بمجهوده وتعب يديه فرفضه الله ولم ينظر إليه. هذا هو الطريق الذي اختطه قايين لنفسه متجاهلاً فساد طبيعته وقضاء الله عليه بالموت كخاطيء. وهو نفس الطريق الذي يسير فيه كل من يظن أن أعماله الصالحة يمكن أن تؤهله للاقتراب من الله بينما يقول الكتاب صراحة "وَيْلٌ لَهُمْ لأَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ قَايِينَ"(**) (يهوذا 11).
3. أما العلاج الإلهي فيتمثل أولا وقبل كل شيء في الوعد الإلهي بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، ثم في أقمصة الجلد التي صنعها "الرَّبُّ الإِلَهُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ ...... وَأَلْبَسَهُمَا" (تكوين 3: 21). أما نسل المرأة فهو المسيح، المخلص الوحيد الذي "جاء مولوداً من امرأة" من عذراء لم يمسها رجل إذ حبل به فيها من الروح القدس (متى 1: 20) أما سحقه رأس الحية فكان بالموت على الصليب المشار إليه بالقول "أنت تسحقين عقبه" (أي طبيعته الإنسانية)، وفي ذلك مكتوب أيضاً أن المسيح اشترك في اللحم والدم "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ" (عبرانيين 2: 14). وهنا نجد ثـلاث حقائق في غاية الأهميـة (هي خلاصة موضوعنا هذا ):
1. لاهوت المسيح، لأنه من ذا الذي يسحق رأس الشيطان إلا الله.
2. ناسوت المسيح الذي به صار نسل المرأة.
3. موت المسيح الكفاري الذي بواسطته انتصر على الشيطان وسحقه.
أما أقمصة الجلد ففيها إشارة واضحة إلى الفداء والكفارة. وسنتكلم عن ذلك بالتفصيل لأنه السر في موت المسيح مصلوباً الذي هو موضوع هذا الفصل. ولكن قبل ذلك أشير إلى نقطتين في الإصحاح الثالث من سفر التكوين: النقطة الأولى أن آدم بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة آمن، ولذلك كساه الله بقميص الجلد بعد إيمانه.
وهذا هو طريق الله للتبرير دائماً: السمع، والإيمان، ولبس المسيح كثوب البر، ويتمثل هذا في القول "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإيمان بِدَمِهِ" (رومية 3: 24). أما دليل الإيمان في آدم فهو أنه بعد أن سمع الوعد بنسل المرأة دعا اسم امرأته حواء (أي حياة) لأنها أم كل حي، مع أنه سمع قبل ذلك مباشرة أنه سيموت ويعود إلى الأرض التي أخذ منها، ولكنه بالإيمان بوعد الله عن نسل المرأة ارتفع فوق دائرة الموت ودعا اسم امرأته "حياة"وبعد ذلك نقرأ مباشرة "صنع الرَّبُّ الإِلَهُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا". فجاء التبرير نتيجة للإيمان.
أما النقطة الثانية فنجدها في آخر هذا الإصحاح الثالث من التكوين وهي أن الله "َأَقامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (تكوين 3: 24).
وفي هذا نجد الإشارة إلى أن الوصول إلى "شجرة الحياة" أو بالحري نوال الحياة الأبدية يحول دونه "الكروبيم ولهيب السيف المتقلب". ولم يستطع أحد أن يفتح لنا هذا الطريق ويوصلنا إلى الحياة الأبدية إلا المسيح الذي تنبأ عنه زكريا قبل مجيئه بالجسد بخمسمائة سنة قائلاً: "اِسْتَيْقِظْ يَا سَيْفُ عَلَى رَاعِيَّ وَعَلَى رَجُلِ رِفْقَتِي يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. اضْرِبِ الرَّاعِيَ" (زكريا 13: 7). أما الكروبيم فكانت مصورة على حجاب الهيكل. ولما مات المسيح على الصليب نقرأ "فَصَرَخَ يَسُوعُ أيضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.
وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إلى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إلى أَسْفَلُ" (متى 27: 50- 51) أي أن الكروبيم الحارسين لطريق شجرة الحياة قد أفسحوا الطريق للوصول إلى حضرة الله، إلى الحياة الأبدية على أساس الإيمان بموت المسيح الذي فيه احتمل ضربة سيف العدل الإلهي عوضاً عنا.
حتمية الفداء بموت المسيح
رأينا فيما سلف أنه لا يمكن للإنسان تمجيد الله ومحو الإهانة التي لحقته بسبب العصيان، كما لا يمكنه تخليص نفسه من عواقب سقوطه، والحصول على التبريروالقبول لديه تعالى. ومن ثم لزم موت المسيح لفدائه ولتحقيق هذه الأغراض وهنا يأتي السؤال: ألم تكن هناك وسيلة أخرى؟ الجواب كلا. وهنا يأتي سؤال آخر: كيف يسوغ لنا أن نحصر قدرة الله غير المحدودة في وسيلة واحدة لا بديل لها؟ الجواب:
إن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أي أمر، ولكن ذلك في مجال كماله المطلق وتوافق جميع صفاته معاً. فلا يقدر الله أن ينكر نفسه (2تيموثاوس 2: 13). ولا يمكن أن ينكث عهـده "وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ" (مزمور 89: 34، عبرانيين 6: 18). وبما أن الله عادل وقدوس فلا يتفق مع عدله وقداسته أن يتساهل مع الخطية أو يدعها تمر بدون توقيع القصاص الذي صدر منه تعالى "لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ" (رومية 6: 23). صحيح أن الله غفور رحيم، ونحن نعتز برحمته ومحبته اللتين لا حد لهما. ولكن الرحمة لا يمكن أن تتجه إلا متوافقة مع القداسة والعدل. فالذين يريحون ضمائرهم بترك أمر خطاياهم إلى رحمة الله هم واهمون إن لم يستندوا على الأساس الصحيح للرحمة وهو الفداء بواسطة بديل كفء يتحمل كل متطلبات العدل، وحينئذ يتسع المجال أمــام رحمة الله لتتجه للبشر الخطاة لقبولهم وتبريرهم عدلاً حيث يكون الله "باراً (عادلاً) ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 3: 26). ولا يوجد بديل كفء إلا المسيح وحده كما سنرى.
والصليب هو الحل الوحيد الذي فيه تمت النبوة "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مزمور 85: 10).
ومبدأ الفداء يملأ الكتاب المقدس من أوله إلى آخره، فقد رأيناه لأول مرة في تكوين 3 ثم في تكوين 4 كما سبقت الإشارة. وكان تقديم الذبائح هو طريق العبادة المقبولة لدى الله كما نرى في نوح حيث نقرأ أنه "أَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا" (تكوين 8: 21). وكان إبراهيم يقيم المذبح ملازماً لخيمته. كما نقرأ عن أيوب الذي كان معاصراً لإبراهيم أنه كان يقدم ذبائح بعدد بنيه لفدائهم من القصاص على ما قد يكون صدر منهم من خطايا ولو بالفكر. وقال الله "أَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى الْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُمْ لأَنَّ الدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ النَّفْسِ" (لاويين17: 10) ولذلك قال الرسول بولس "بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ" (عبرانيين 9: 22).
وتقديم الذبائح يفيد الاعتراف بالخطايا وباستحقاق الموت. وقد رسم الله لشعبه قديماً في سفر اللاويين أربعة أنواع رئيسية من الذبائح هي: المحرقة، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم، وذبيحة السلامة. ومن الذبائح ما كانوا يضعون أياديهم على رؤوسها ويقرون بخطاياهم رمزاً لانتقال هذه الخطايا إلى الذبيحة قبل ذبحها. أما المحرقة فكانوا يضعون أيديهم على رأسها رمزا لانتقال براءتها إلى مقدم الذبيحة.
ولم تكن تلك الذبائح إلا رمزا لتقديم المسيح نفسه ذبيحة لله بحسب رسم المشورات الأزلية. ولذلك لما رأى يوحنا المعمدان المسيح مقبلاً إليه قال "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يوحنا 1: 29). أما الذبائح في ذاتها فلم تكن ترفع خطايا "لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إلى الْعَالَمِ يَقُول ُ(المسيح): ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلَكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً... هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ... يَنْزِعُ الأول (أي الذبائح الحيوانية) لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ (أي ذبيحة المسيح). فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً" (عبرانيين 10: 4-10). ولذلك قال داود "لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى" (مزمور51: 6). وقال ميخا "بِمَ أَتَقَدَّمُ إلى الرَّبِّ... هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ...هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكِبَاشِ... هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟" (ميخا 6: 6، 7).
الشروط الواجب توافرها في الفادي
1. لابد أن يكون الفادي إنساناً، ولذلك دعي المسيح "ابن الإنسان" و"الإنسان الثاني" و"آدم الأخير" لكي يستطيع أن يموت عن البشر ليفديهم.
2. يجب أن يكون هذا الإنسان باراً وكاملاً لأن الخاطىء لا يمكن أن يفدي الخاطىء لذلك مكتوب "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإنسان فِدَاءً وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ فَغَلِقَتْ إلى الدَّهْرِ" (مزمور 49: 7،
. والمسيح له المجد مكتوب عنه أنه "لم يفعل خطية" و"لم يعرف خطية" و"ليس فيه خطية". وقد شهد ببره جميع أعدائه، حتى مسلمه يهوذا، والذي حكم عليه بيلاطس.
3. أن تكون قيمته أعظم من قيمة كل البشر معاً لأنه لا يفدي إنساناً واحداً بل ملايين المؤمنين في كل الأجيال. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح الذي هو الله "الذي ظهر في الجسد".
4. أن يكون ملكاً لنفسه أي غير مخلوق، لأن كل مخلوق هو ملك لله خالقه ولا يمكن أن يقدم لله ما لا يملكه. ولا يتوفر هذا الشرط إلا في المسيح له المجد الذي هو الخالق. وقد قــال "لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أيضاً" (يوحنا 10: 18).
5. أن يكون قادراً وراغباً في تحمل قصاص خطايا كل البشر الذين ينوب عنهم. كما أنه يكون قادراً أن يعطي لمن يفديهم حياة روحية وطبيعة أدبية تتوافق مع الله.
وبناء عليه لا يمكن أن يكون الفادي إلا المسيح وحده الذي هو الله وإنسان معاً.(***)