التوحيد والتثليث
جاء اعتقاد كل طوائف المسيحية بالله الواحد المثلث الأقانيم من الكتاب المقدس، فيؤمن كل المسيحيين بالله الواحد، الموجود بذاته، الناطق بكلمته، الحي بروحه.. فهو موجودٌ بذاته (وهذا ما يطلقون عليه الآب) لأنه لا يمكن أن الذي أوجد الموجودات كلها يكون بلا وجود ذاتي. وكلمة "أب" لا تعني التوالد التناسلي، بل تعني الأبوَّة الروحية كقولك إن إبراهيم هو أب المؤمنين.. والله ناطق بكلمته، ويطلقون عليه "الابن" و"الكلمة". فلا يمكن أن يكون الله الذي خلق الإنسان ناطقاً يكون هو نفسه غير ناطق. وتلقيب المسيح بالكلمة جاء من الكلمة اليونانية "لوجوس" وتعني العقل. فالله خلق العالم بكلمته وعقله. والله وعقله واحد، كما تقول "حللتُ المسألة بعقلي" وأنت وعقلك واحد. عقلك "يلد" فكرة تنفصل عنه وتُنشر في كتاب مثلاً، أو على الإنترنت، وفي الوقت نفسه تكون الفكرة موجودة في عقلك. والله ناطق بالمسيح "كلمته"، الذي هو ابنه (كقولك: الكلمة ابنة العقل، وفي تعبيرنا العربي: لم ينطق ببنت شفة). فالكلمة في العقل، ومع ذلك يرسل العقل الكلمة لتنتشر وتهدي الناس، وهي في الوقت نفسه موجودة في العقل والعقل فيها.. والله حي بروحه، ويُطلقون على ذلك "الروح القدس" فلا يمكن أن الله الذي خلق الحياة يكون هو نفسه غير حي بروحه. والله وروحه واحد.
وملخص تعليم الكتاب المقدس في التثليث أنه لا يوجد إلا إله واحد فقط، فقد قال المسيح: "الرب إلهنا رب واحد" (مر 12: 29). وقال الرسول يعقوب: "أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل" (يع 2: 19) فلا إله إلا الإله الوحيد السرمدي الحقيقي. ومع ذلك فإن لكل من الآب والابن الروح القدس صفات اللاهوت وحقوقه، وألقابه وصفاته الإلهية، ويستحق كلٌّ منهم العبادة الإلهية والمحبة والإكرام والثقة. فيتضح من الكتاب المقدس لاهوت الآب، كما يتضح لاهوت الابن، ولاهوت الروح القدس، كما يتضح أيضاً أن اللاهوت واحد، فلا بد أن يكون الله واحد، مثلث الأقانيم.
يتحدث الكتاب عن أن الله واحد، ولكنه يقول أيضاً إن الآب هو الله، وإن الابن هو الله، وإن الروح القدس هو الله. فلا بد إذاً أن يكون الله واحداً، ذا وحدانية جامعة وليس ذا وحدانية بسيطة. في الوحدانية البسيطة يكون الواحد واحداً، أما في الوحدانية الجامعة فإن الثلاثة يمكن أن يكونوا واحداً.
ولا نقرأ أبداً في الكتاب أن الله هو المسيح، لأن هذا القول يعني استبعاد الآب والروح القدس من الألوهية. ولكن الكتاب يعلّمنا أن المسيح هو الله، وأن الله هو الآب والابن والروح القدس، في وحدة جامعة.
ولم يرد تعليم وحدانية الله وتميُّز الأقانيم أحدها عن الآخر ومساواتها في الجوهر وعلاقة أحدها بالآخر في الكتاب المقدس جملة واحدة بالتصريح بل في آيات متفرقة. غير أن جوهر هذه الأمور منصوص عليه من أول الكتاب لآخره. ومن الأمور التي تثبت صحة هذا:
(1) أن هذه العقيدة موجودة في الإعلانات المتتابعة، ففي سفر التكوين تلميحات لتعليم التثليث، كورود اسم الله "إلوهيم" بصيغة الجمع، والضمائر التي تعود إليه في هذا السفر بصيغة الجمع كقوله "لنصنع الإنسان على صورتنا" (تك 1: 26 و3: 22 و11: 7 وإش 6:
.
وجاء بروح النبوَّة في إشعياء 48: 16 وتحقق على لسان المسيح بخصوص تجسّده: "منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني، وروحه".
وفي وقت معمودية المسيح، خاطبه الآب، وحل عليه الروح القدس مثل حمامة. وهذا يرينا الآب والابن والروح القدس في وقتٍ واحدٍ معاً (مت 3: 16، 17 ولو 3: 21، 22).
وأمر المسيح أن يتعمّد المؤمنون "باسم" الآب والابن والروح القدس، وليس "بأسماء" أي باسم الإله الواحد الثالوث الأقدس. وهذا يدل على أقنومية كلٍ منهم ومساواتهم. ويستلزم اعترافنا هذا أننا مكلَّفون بعبادتهم والاعتراف بهم علانية (مت 28: 19).
وفي البركة الرسولية نطلب نعمة المسيح من المسيح، ومحبة الآب من الآب، وشركة الروح القدس من الروح القدس. فكلمات هذه البركة تتضمن الإقرار بأقنومية كلٍّ من الآب والابن والروح القدس وألوهيتهم (2كو 13: 14 و1بط 1: 2 ويه 21).
وأقصى ما نقوله لتوضيح ذلك هو أن التثليث إعلان إلهي لنا في الكتاب المقدس بعهديه، فالله واحدٌ في ثلاثة أقانيم، كلٌّ منهم يتميز عن الآخر في الأقنومية لا في الجوهر.
وقد رفض البعض عقيدة التثليث بحُجَّة أنه فوق عقولنا. ولكن هذا الرفض يستلزم أن نرفض أيضاً عقائد غيرها من معلَنات الله التي تفوق إدراكنا، مثل عقيدة أن الله قائم بنفسه، وأزلي، وعلة العلل وغير معلول، وموجود في كل مكان في وقت واحد، وعالم بكل شيء وبكل ما يحدث منذ الأزل إلى الأبد في كل وقت، وأن علمه لا يقبل الزيادة أو النقصان. فسر التثليث ليس أعظم من أسرار أخرى في الله.
كم أنه يحق لله أن يعلن لنا تعليماً دون أن يشرحه بالتفصيل، وعلينا أن نقبل ذلك التعليم منه بالتواضع والإيمان القلبي. وعلى هذا نقبل تعليم الثالوث كما نقبل تعليم الوحدانية بدون تفسير كيفيته بالتفصيل.. وإدراك حقيقة التثليث والاطلاع على غوامضه والتمكن من إيضاحه لا يتم إلا بواسطة النور السماوي المعلَن في كلمة الله، وتوضيح الروح القدس، اللذَيْن يشرقان على عقولنا المظلمة بنعمة الله "وليس أحد يقدر أن يقول إن يسوع رب إلا بالروح القدس" (1كو 12: 3).
وقد حاول البعض توضيح عقيدة التثليث بتشبيهات وأمثلة، ولكن لا يوجد مثَلٌ واحد يوضح الحقيقة كلها. فكم بالحري لو كانت الحقيقة هي الله الحق! ومن الأمثلة الإنسان، فهو واحد وحدانية جامعة، لأنه مكوَّن من عقل وجسد وروح. ومن الأمثلة النفس، لها عقل ومشاعر ومشيئة. ومنها الشجرة وهي ذات أصلٍ وساقٍ وزهرٍ. ومنها المكعب وهو واحد ذو ثلاثة أبعادٍ. ومنها الشمس وهي قرص وضوءٌ وحرارة. ومنها الفاكهة وهي حجم ورائحة وطَعمٌ. ومنها الماء وهو سائل وبخار وجامد.
غير أن هذه الأمثلة لا تفي بالمقصود، وتبدو متناقضة. فالإنسان، وإن كان مركباً من عقل وجسد وروح، إلا أن هذه الثلاثة ليست جوهراً واحداً بل ثلاثة جواهر. ومثَل النفس، من أن العقل والمشاعر والمشيئة هي قوى مختلفة لنفسٍ واحدة، لأن الشخص متى افتكر يستعمل عقله، ومتى أحب يستعمل مشاعره، ومتى شاء يستعمل مشيئته. فلا تشابه بين هذا وتثليث أقانيم الجوهر الواحد. وكذلك في مثَل الشجرة، فالأصل والساق والزهر ثلاثة أجزاء لشيء واحد. وهكذا نقول في البقية.
والحق أنه ليس للتثليث نظير بين جميع المخلوقات التي نعرفها نحن. ولا عجب، لأنه ليس كمثل الله شيء مطلقاً في الكون