الزواج فى المفهوم الكتابى
الكاتب: القس نصرالله زكريا
يرتكز الفكر المسيحي في الزواج على ما جاء في سفر التكوين، حيث يتأكد من القصة الكتابية أن الله هو الذي رتب حواء وخلقها لتؤنس وحدة آدم وتكون معيناً نظيره، فبعد أن خلق الله كل شئ حسناً، نظر فوجد آدم وحده، فقال: «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ .. فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ.فَقَالَ آدَمُ: «هَذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ» (تكوين 2: 18- 23). تجلت فرحة وبهجة آدم برؤيته لحواء في إنشاده أول قصيدة حب في كتابات العهد القديم، إذ قال: «هَذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ إمْرِءٍ أُخِذَتْ» (تكوين 2: 23)، لذلك «.. يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تكوين 2: 24).
إن القاعدة في الفكر المسيحي هي الزواج، وعدم الزواج هو الاستثناء -وقد كان عدم الزواج مرفوضاً ومنبوذاً في اليهودية- حيث يحقق الزواج قصد الله للإنسان، وخطته للبشرية جمعاء.
من هذا المنطلق ترى المسيحية أن الزواج لابد وأن يحقق الرؤية الكتابية، حيث يقول الكتاب المقدس: لذلك «.. يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً»، ولأهمية هذه الفكرة فقد تكررت هذه الكلمات عبر الكتاب المقدس أربع مرات (تكوين 2: 24، متى 19: 5، مرقس 10: 7، أفسس 5: 31)، ومن هذه الكلمات الكتابية تأتي الصورة الصحيحة للزواج في المفهوم المسيحي، حيث لابد لأي زواج أن يحقق الأفعال الثلاثة المذكورة في هذه الآيات، وهي الترك، ثم الالتصاق، وأخيراً الوحدة الكاملة.
الترك أو الانفصال: الخطوة الأولى على طريق تحقيق الزواج في صورته الكتابية المسيحية، فلا يوجد زواج حقيقي بدون الترك والانفصال عن الأهل، يقول الكتاب: «لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ..»،والترك يشير لعمل علني شرعي يتم في زمان ومكان معيَّنين ليكون الزواج زواجاً، حيث تتم دعوة المدعوين بدعوة رسمية، بالإضافة لوثيقة الزواج الرسمية، كل هذا ليعلم الجميع أن هذين زوج وزوجة مرتبطان بعهد الزواج المقدس، والزواج أمر خاص بالعروسين فقط، ولكن لكي تبدأ الحياة الزوجية بطريقة صحيحة، على الزوجين أن يتركا أبويهما وينفصلا عنهما.
ولا يعني الترك أو الانفصال عن الأهل، هجر الوالدين أو التنصل من الالتزام الأدبي نحوهما، فالوصية الكتابية في هذا الأمر صريحة، إذ تقول: «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ» (خروج 20: 12)، والإكرام يعني «التقدير الرفيع» أو «تقديم الاحترام العظيم، الكرامة، الاعتبار»، «القيمة»، التعامل بخضوع ولياقة، كذلك يتضمن الإقرار بحق الشخص المكرم في الحصول على احترام مكرمه أي أن يعبر له عن هذا الاحترام».
إن التحدي الأول الذي يواجه أي زوجين هو التأكيد على أن زواجهما زواج كتابي هو تحقيق شرط الترك والانفصال عن الأهل دون الإقلال من إكرامهم.
الالتصاق أو الاتصال: الأمر الثاني الهام في الصورة الكتابية للزواج، هو الالتصاق والاتصال، فقد قال الله: «لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ..»، والمعنى الحرفي للكلمة العبرية «يلتصق بـ» هي «يلصق» أو يكسو بلاصق «بالغراء». وكأن المراد قوله هنا هو أن يلتصق الزوج والزوجة معاً بالغراء بالضبط كما تلتصق قطعتان من الورق بطبقة غراء لدرجة أنك لو حاولت فصلهما فستمزق كليهما، كذلك إن حاولت فصل الزوجين الملتصقين عن بعضهما فسوف يتمزق كلاهما»، ومعنى التصاق الزوجين معاً هو أن يصبحا قريبين من بعضهما البعض وأقرب من أي شخص آخر في عالمهما، إن معنى «الالتصاق» يشير إلى قلب التوحد، وحدة المشاعر والتزام كل نفس بالأخرى. وتكريس الولاء، والحب والالتزام الدائم بالآخر».ربما يمكننا أن نستبدل كلمة «يلتصق» بكلمة «يحب»، مع أن الكتاب المقدس لا يستعمل هذه الكلمة هنا، فالالتصاق معناه محبة من نوع خاص، إنها المحبة التي اتخذت قرارها النهائي، لذا فالالتصاق يمثل الجانب الشخصي في الزواج.
الاتصال ووحدة الحال: إن الصيرورة كجسد واحد هو هدف الآية القائلة: «لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً وَكَانَا كِلاهُمَا عُرْيَانَيْنِ ادَمُ وَامْرَأتُهُ وَهُمَا لا يَخْجَلانِ»، وهاتان الآيتان تمثل الجانب الجسدي والعلاقة الجنسية بين الزوجين، فقد أوصى الرسول بولس في هذا الشأن كلا الزوجين قائلاً: «لِيُوفِ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا الْوَاجِبَ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ أَيْضاً الرَّجُلَ.لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ تَسَلُّطٌ عَلَى جَسَدِهَا بَلْ لِلرَّجُلِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ أَيْضاً لَيْسَ لَهُ تَسَلُّطٌ عَلَى جَسَدِهِ بَلْ لِلْمَرْأَةِ.» (1كورنثوس 7: 3-4).
لكن تبقى الصيرورة «جسداً واحداً» أكثر من مجرد الاتحاد الجسدي فقط، إنها تعني أن شخصين معينين يتشاطران كل ما لديهما ليس فقط جسديهما أو ممتلكاتهما بل أيضاً أفكارهما ومشاعرهما، أفراحهما وآلامهما، آمالهما ومخاوفهما، نجاحهما وفشلهما، الصيرورة جسداً واحداً» تعني أن هذين الشخصين يتحدان تماماً جسداً ونفساً وروحاً، ومع ذلك يحتفظ كل منهما بشخصيته المستقلة.
تكتمل أركان الزواج المسيحي بحسب فكر الكتاب المقدس في هذه الثلاثية، «الترك، الالتصاق، الجسد الواحد» ولا يأتي صراحة ذكر الأولاد في هذه الجزئية، ومع أن الكتاب المقدس يقرر أن الأولاد بركة من عند الرب، إلا أنها تبقى بركة إضافية من بركات الزواج، ومعنى هذا أن الزواج المسيحي يبقى كاملاً حتى ولو لم يرزق الزوجان بأطفال، وهذا معناه أن الأولاد لا يجعلون من الزواج زواجاً، فحتى الزواج العقيم –أياً كان الطرف العقيم- هو زواج بكل معاني الكلمة. ونخلص إلى أن الزواج المسيحي في مفهوم الكتاب المقدس هو:
1) الزواج خطة وقصد الله للإنسان: إن الكتاب المقدس يوضح جلياً أن الزواج ترتيب ونظام إلهي أسسه الله، وفق إرادته وقصده للإنسان، وهذا ما يظهر –ما سبق الحديث عنه- من سفر التكوين في قصة خلق حواء وإحضارها لآدم، وبركة الله لهما ليكثروا ويثمروا ويملأوا الأرض.
2) الزواج مقدس وشريف وطاهر: هذا الأمر يؤكده الكتاب المقدس في الله القدوس الذي خلق الإنسان على شبهه وصورته لا يمكن أن يدعه يفعل إلا ما هو طاهر وشريف فالله لا يقبل إلا القداسة والطهارة.. وكل ما هو عكس ذلك إنما هو من أفكار البشر..إذن علينا أن نحيا ما يقوله في هذا الخصوص.. أي «لِيَكُنِ الزِّوَاجُ مُكَرَّماً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ..» (العبرانيين 13: 4)، فما قدسه الله لا ينجسه إنسان.
3) الزواج لا العزوبية هي الأساس: على عكس ما يظن البعض من أن العزوبية أفضل، وذلك لأن الله منذ البدء خلقهما ذكراً وأنثى.. وقد رأى أنه ليس جيداً أن يبقى آدم وحده! والله بذاته أحضر حواء إلى آدم وأوصاهما بالإكثار والإثمار.. إلا أنه إن رغب أحد في العزوبية مثلاً بسبب دعوة من الله فحسناً يفعل، وهذا ما يوضحه الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس «إذ يقول «وَلَكِنْ أَقُولُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجِينَ وَلِلأَرَامِلِ إِنَّهُ حَسَنٌ لَهُمْ إِذَا لَبِثُوا كَمَا أَنَا» (1كورنثوس 7:
أما مَن يُحرِّمون الزواج يقول عنهم الكتاب المقدس: «وَلَكِنَّ الرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحاً: إِنَّهُ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ الإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحاً مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ، مَانِعِينَ عَنِ الزِّوَاجِ..» (1تيموثاوس 4: 3).
4) الزواج وُجد ليبقى: يقول الكتاب المقدس «لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تكوين 24:2).
5) الزواج هو بين رجل واحد وامرأة واحدة: فالزواج ليس بين عدد من الزوجات وزوج واحد.. إذ أن الله أساساً خلقهما ذكرا وأنثى.. آدم و حواء. فلو أراد الله حقاً أن يكون لآدم أكثر من زوجة لفعل